لا شك أن أي عاقل أو مُنصف يوقن أنه لكي يصل الإنسان إلى طريق السعادة لا بد وأن يدرك حقائق الوجود الكبرى؛ ومن ثَمَّ عليه أن يتطلع إلى تحصيل السعادة من خلال الطريقة السليمة للتعامل مع المحاور الرئيسة لهذا الوجود، وهي: الإنسان، والحياة، والكون.
يقول الله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[غافر: 67]
نعم.. أصله من تراب وماء مهين، ومصيره إلى جثة هامدة، وهو فيما بينهما يحمل النجاسة في جوفه، ويستقذر كل ما يخرج من بدنه، وبعد كل هذا يكون خصيمًا لربه، فما أكفره!! يقول الله تعالى {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ١٧ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ١٨ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ١٩ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ٢٠ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ٢١ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:17- 22]
ومع ذلك فهو مُكرَّم على سائر المخلوقات الأخرى، فقد أمر الله الملائكة بالسجود لجده آدم، وسخّر له الأرض والدواب، وأكرمه بالعقل الذي صنع به المعجزات، قال تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]
فجوهر الإنسان إذًا لا يمكن فهمه إلا بتصور هاتين الحقيقتين معًا، وبهذا التصور يستقيم التوازن القائم على الإيمان بأن كل ما يحققه الإنسان من مجد وعز ومال وعلم وغير ذلك ليس إلا من فيض الله تعالى عليه، قال تعالى{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]
، أما الإنسان بذاته فليس إلا كتلة من اللحم والعظم تسمو بها نفسه التي يجب عليه تهذيبها وترويضها بالعلم النافع والعمل الصالح، وأنه على الرغم من ضعفه وعجزه إلا أن الله تعالى قد أكرمه بصفات تؤهله لحمل الأمانة التي لم تقدر عليها الكائنات الأخرى من حوله، قال تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]
، وإذا أخل الإنسان في إيمانه بشرط التوازن بين الحقيقتين فإما أن ينصرف ذهنه إلى حقيقته الأولى؛ فلا يرى من نفسه إلا جسدًا قذرًا شهوانيًّا لا هدف له ولا غاية، فيُقبل على ملذاته كالبهائم حتى يقضي على نفسه بإذلالها، قال تعالى{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12]
،وإما أن تطغى على فكره الحقيقة الثانية؛ فتؤدي به إلى التكبر والتأله والطغيان غافلًا عن أنه إلى ربه راجع، قال تعالى{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ٦ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ٧ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:6- 8]
، فعلى الإنسان أن يعرف قدر نفسه ويتصالح معها؛ لذلك كان من أهم أسباب التعاسة أن الإنسان لا يجد نفسه ولا يعرف أين موقعه في المجتمع، ولا يعرف من هو، وما هي مكانته، وماذا يستطيع أن يقدم.
الله تعالى خلق كل الموجودات، ولم يكن خلقه جلّ وعلا عبثًا ولا سدى، قال تعالى{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ١١٥ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115- 116]، وإنما خلق الخلق لعبادته بالمفهوم الشامل للعبادة الذي يشمل كل الحياة حتى عمله ولعبه ولهوه وحياته كلها، لا مجرد الشعائر التعبدية فحسب، قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات: 56]، أما من لا يعرف ذلك فإنه لا يزال يتعذب بهذا الجهل، ويستمر في الشك والحيرة يشقى بهما في حياته، وتنفصل لديه العبادة عن السعادة، والعبادة عن حياته الدنيا، والدنيا عن الآخرة، والله جلّ وعلا سخَّر للخلق كل ما في السماوات والأرض، قال تعالى {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]
، وعلى الإنسان أن يدرك أنه مستخلف في هذه الأرض من قِبَل مالكها الحق ومالك الإنسان للاختبار والابتلاء، قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]
بعد أن يدرك الإنسان حقيقة وجوده تتطلع نفسه للتأمل في كنه الحياة التي جُبل على التعلق بها؛ فهي الأساس الذي تقوم عليه كل ملذات الدنيا ومباهجها، وعليها يقوم الأمل في تحصيل ما ترغب فيه النفس وتميل إليه، فما هو الغرض من الحياة؟! إن غاية خلق الموت والحياة ابتلاء الناس أيهم أحسن عملًا، قال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]
تلك هي الحقيقة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!! نعم هذه هي الحكمة من الدنيا، قال تعالى{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]، وقال تعالى {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]
، فحياتنا التي نحياها هي ممر وليست مقر، وهي قنطرة توصل إلى الدار الآخرة، فلا تنتهي حياة بنهاية الدنيا، وإنما هناك الحياة الباقية الحقيقية في الآخرة، فالحياة الدنيا مجرد لهو ولعب وزينة وتفاخر كما قال عنها الله سبحانه وتعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]، فالآية تُصور هذه الحياة الدنيا كلها بصورة هزيلة زهيدة تهون من شأنها، وترفع النفوس عنها، وتعلقها بالآخرة وقيمتها، فحين تُقاس الحياة الدنيا بمقاييسها هي وتوزن بموازينها تبدو في العين وفي الحس أمرًا عظيمًا هائلًا، ولكنها حين تُقاس بمقاييس الوجود وتوزن بموازين الآخرة تبدو شيئًا زهيدًا وتافهًا: لعبًا ولهوًا وزينة وتفاخرًا وتكاثرًا، هذه هي الحقيقة وراء كل ما يبدو فيها من جد حافل واهتمام شاغل، نعم.. هذه هي حقيقة الحياة الدنيا.. هي حقيقة يدركها القلب حينما يتعمق في طلب الحقيقة، حقيقة لا يقصد بها القرآن العزلة عن حياة الأرض، ولا إهمال عمارتها وخلافتها، إنما يقصد بها تصحيح المقاييس الشعورية والقيم النفسية والاستعلاء عن غرور المتاع الزائل وجاذبيته المقيدة بالأرض، إن الحياة ليست إلا جسرًا تمر عليه الكائنات في طريقها نحو الآخرة، وهذه الدنيا في قصرها وسرعة زوالها لا تساوي شيئًا يذكر بجانب الخلود الذي سيعقبها، كما أن الآخرة على امتدادها اللانهائي متوقفة على ما يكون عليه حال الإنسان في هذه الحياة الأولى، فهو إذن في مرحلة امتحان دائم، وكل ما يراه من حوله من مباهج وملذات ومتع، أو من مآسي وجراح وكوارث، فإن هذا كله ليس إلا أيامًا قليلة سرعان ما تنقضي، وستوضع بكل ما تحتويه في كفة الميزان لتحدد مصيره الأبدي، وإلا فماذا ستأخذ معك في قبرك؟ قال تعالى{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام: 94]، فما بال أكثر الناس عن هذه الحقيقة غافلين، هذا ما قاله المولى عز وجل، قال تعالى {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]
فكيف بمن رضي بالحياة الدنيا ولا يرجو لقاء ربه؟! قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ ٧ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7- 8]، كيف بمن آثر الحياة الدنيا، قال تعالى {فَأَمَّا مَنْ طَغَى ٣٧ وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ٣٨ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ٣٩ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ٤٠ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ٤١}[النازعات:37- 41]، نعم؛ لأنهم اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا وغرتهم الحياة الدنيا، قال تعالى {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51]، نعم؛ لأنهم يبغونها عوجًا، قال تعالى{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 3]
وليس معنى ذلك أن تهون الحياة في نظر الإنسان، وأن ينصرف عن إعمار الأرض بالعلم والعمل إلى التقشف وانتظار الموت، كلا.. بل الطريقة المثلى أن نتعامل مع الدنيا كما قال تعالى{وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص: 77]، وقال تعالى أيضًا{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60]
وبهذه الرؤية المتكاملة تغدو الحياة في نظر الإنسان كنزًا ثمينًا يتوجب عليه استثماره؛ فهي في جوهرها لا تستحق من الاهتمام أكثر من كونها جسرًا للسعادة الأبدية، أما المباهج وألوان المتع التي تصادفه فيها ما هي إلا متاع الحياة الدنيا وزينتها، قال تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ} [آل عمران: 14]
وقال تعالى{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46]
ولا تُكره أيضا لِذاتها إذا ما أحسن استخدامها، قال تعالى{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[الأعراف: 32]
، وبهذا الفهم يخوض المسلم غمار الحياة بملذاتها واثق الخطى، بعد أن استيقن أن كل ما ملكه فيها غير باق، فهو إذن في سعي دائم للاستمتاع بها دون إسراف، مع إيمان داخلي بأن ما امتلكه منها في قبضة يده وليس في قلبه، وليس يضره ما فاته منها أو أصابه في دنياه، قال تعالى{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ٞ ٢٢ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22- 23]
، وبذلك يستمتع بالملذات والمتع والزينة، وله الأجر من الله، وتتصل لديه الدنيا بالآخرة وأفراح البدن والجسد مع أفراح الروح، والسعادة بالمتاع الدنيا، والسعادة بالرضا والطمأنينة في داخله.
ينتقل المسلم في تأمله إلى المحور الثالث والأخير في فهمه للوجود؛ وهو الكون الذي يحوي كل الكائنات المحيطة به، ويبدأ التأمل فيه من قوله تعالى{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]
، ثم يمضي في دراسة عشرات الآيات التي تدعوه للتفكر في خلق الله وبديع صنعه؛ ليخرج منها بنتيجة مشابهة للتي حصل عليها من تأمله السابق في حقيقة وجوده وحياته، وسيكتشف أن فهمه للكون يجب أن ينطلق أيضًا من إدراك حقيقتين متكاملتين:
الأولى: هي حقيقة أن الله تعالى قد سخّر له معظم ما يحيط به من كائنات؛ إذ إن تفضيله عليها ليس مقتصرًا فقط على تمتعه ببعض الميزات، بل يعدوه إلى تسخير هذه الكائنات لخدمته وتحقيق رفاهيته، قال تعالى {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20] وقال تعالى {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12]، وقال تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]
وسيجد المسلم في كثير من الآيات دلائل باهرة على تسخير هذا الكون له وتمكينه فيه، وفي ذلك إشارة لطيفة إلى ضرورة استئناسه بهذا الكون، واستبطانٌ للنهي عن الجزع مما قد يلاقيه فيه من كوارث ونوازل قد تحل به، فالطبيعة إذًا ليست في تحدٍّ دائم مع الإنسان الضعيف، والإنسان أيضًا ليس في صراع مستمر للتغلب على طغيان الطبيعة.
أما الحقيقة الثانية: فهي أن الكون لم يكشف للإنسان كل أسراره بعد، فعلى الرغم من التسخير والتمكين إلا إن طائفة أخرى من المكوَّنات ما زالت غائبة عن إدراك الإنسان أو خارجة عن سيطرته، فالكون يضج بالملائكة والجان، وقد يحتوي أيضا على مخلوقات أخرى ليس في مُكنة الإنسان التعرف على حقيقتها أو حتى العلم بوجودها، ووجود الإنسان فيه لا يعدو أن يكون ذرة صغيرة لا تكاد تُذكر أمام عظمة هذا الكون واتساعه.
وبهاتين الحقيقتين تتكامل رؤية المسلم للكون المحيط؛ فهو مُدرك تماما لمكانته المتميزة بين كافة المخلوقات، حيث جعله الله تعالى مركز الوجود الذي تُسخر له معظم الموجودات الأخرى، وهو في الوقت نفسه مدرك لحقيقة استغلاق بعض الأبواب عليه، وأن قدراته العجيبة مهما بلغت من سمو فإنها لن تطرق تلك الأبواب.
أما علاقة الإنسان بمن حوله فهي منضبطة بضوابط الذوق الرفيع والأدب الجمّ، فالأشخاص الذين يعيشون في حالة فوضى في علاقاتهم هم في شقاء وتعب وجهد ونصب يكابدون ما يكابدون لأنّ علاقاتهم غير متوازنة وغير منضبطة؛ فعلاقاتهم قائمة على الأنانية والحسد والظن السيئ والتآمر والترصد.. كل ذلك يجعل الإنسان غير سعيد وغير راض، وتجعله إنسانًا متوترًا ومتحفزًا ويعاني من شدة دائمة وتوتر مستمر، فمن أين تكون له الراحة والسعادة؟! قال تعالى{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ٣٤ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت:34- 35]، أما الإنسان الذي نظم حياته وعلاقاته على مبدأ الحقوق والواجبات فهو يؤدي واجباته، ويتساهل في حقوقه، ويتجاوز عن خصومه، وهو بعد كل ذلك إنسان سعيد بلا شك، والمودة أرقى درجات تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان، فالود يعني المحبة والألفة واللهفة، وتلك هي الفطرة السوية للإنسان.
بهذا الإيمان يتصالح الإنسان مع خالقه ومع نفسه ومع الكون الذي حوله، فهو مدرك أولًا لحقيقة عبوديته لله تعالى، وقائم بما يلزم عنها من واجبات، ومدرك ثانيًا لقيمة نفسه كمخلوق أكرمه الله بتسخير الكائنات له، وأنه قد هبط إلى الأرض ليمتحن فيها قبل أن يعود إلى الجنة التي خُلقت له، فهو مكلف بإعمار هذه الأرض، قال تعالى {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[هود: 61]
ومكلف أيضا بترويض نفسه للأخذ من الشهوات ضمن قيود الشرع وحدود الحاجة، فإذا انتهينا إلى هذا الفهم المتكامل للخالق سبحانه وللنفس وللكون، فقد حقّ لنا الآن أن نتساءل عن النتيجة العملية التي يمكن أن نجنيها من تطبيق هذا المفهوم، فبعد أن يدرك الإنسان تلك الحقيقة سيستنتج بالبداهة أن السعادة في الدارين ـ الدنيا والآخرة ـ منوطة برضا الله تعالى والامتثال لأوامره والوقوف عند حدوده .. تأتى في تحقيق التوازن بين مطالب الجسم والروح؛ وبين مطالب الفرد ومطالب الجماعة؛
وبين إعمار الدنيا وإعمار الآخرة، وتبقى السعادة في الدنيا ـ مهما بلغت ـ سعادة ناقصة؛ لأنّ الدنيا دار اجتهاد وعمل وامتحان، والآخرة دار حساب ومن فاز فيها حصل على السعادة الكاملة والأبدية، قال تعالى {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ٢١ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:21- 22]، ولتسعد البشرية وتشعر بالطمأنينة وتحيا حياة طيبة في الدنيا والآخرة لا بد من الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل: 97]