السعادة في الحياة التي نحياها في الإسلام لها منابع كثيرة وأسباب متعددة، منها:
لا سعادة ولا راحة ولا طمأنينة كراحة وطمأنينة التوحيد، قال تعالى{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام: 82]
؛ ولذا بقدر تمام التوحيد وكماله بقدر ما يحصل الأمن والطمأنينة والسعادة في الدنيا والآخرة، إذ يشرح الله صدر صاحبه ويدخل السرور عليه، أما الشرك ـ والعياذ بالله ـ فيوجب الشقاء والضيق في صدر صاحبه كأنما يصَّعد في السماء، قال تعالى{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]
فلا يستويان مَن شرح الله صدره للإسلام؛ فهو على نور من ربه، ومن كان في ظلمات الشرك والبعد عن ذكر الله فقسا قلبه؛ فهو في ضلال مبين، قال تعالى{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]، وليس من كان ميتًا في ظلام الشرك فهداه الله بفضله ورحمته كمن قبع في ظلمات الشرك ليس بخارج منها، قال تعالى{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]
مهما أوتي الإنسان من زينة الحياة الدنيا، ومهما ملك وحاز من أسباب السعادة؛ فإنه لن يستطيع أن يحوز السعادة طالما كان بعيدًا عن طريق الله تعالى، فلن تتحقق الطمأنينة للإنسان إلا حين يكون في جنب الله عز وجل وفي ظلال ورياحين ذكره، قال تعالى {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }[الرعد: 28]
ذلك لأنه في القلب شعث لا يَلُمُّه إلا الإقبال على الله تعالى، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأُنس به في خلوته، وفيه حزن لا يُذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يُسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يُطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيهالم تُسد تلك الفاقة منه أبدًا[1] .
[1] مدارج السالكين، ابن القيم، ص743.
يقول الله تعالى {الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ} [الرعد: 29]
فالذين آمنوا ـ بقلوبهم ـ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وصدَّقوا هذا الإيمان بالأعمال الصالحة ـ أعمال القلوب؛ كمحبة الله وخشيته ورجائه، وأعمال الجوارح؛ كالصلاة ونحوها ـ لهم حالة طيبة من كمال الراحة وتمام الطمأنينة، وذلك بما ينالون من رضوان الله وكرامته في الدنيا والآخرة، فعلينا بالعمل الصالح مع الإيمان؛ قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }[المائدة: 69]
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجد راحته ولذته في الصلاة والطاعة، كان يقول "يا بلال أقم الصلاةَ، أَرِحْنا بها" [رواه أبو داود]
وهذا أمر مجرَّب ومشاهَد، فإننا نجد الذي يحسن إلى الآخرين من أسعد الناس، ومن أكثرهم قبولا في الأرض، قال تعالى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92]
والعطاء له أشكال كثيرة؛ فقد جعل الله العطاء بالمال جزءًا من أركان الإسلام؛ ففرض وأوجب الزكاة على الغني للفقير، وقرر الله أن هذا العطاء ينبغي أن يكون بطيب نفس وإخلاص لله بأفضل ما يحب الإنسان، وبلا مَنّ على الناس، وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]
، بل وسَّع العطاء ليتجاوز المال إلى كل عطاء سواءً كان مالًا أو طعامًا أو جهدًا وعملًا، قال تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ٨ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان:8- 9]
، بل وحتى لو كانت مجرد ابتسامة، قال صلى الله عليه وسلم "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة" [رواه الترمذي]، وقال صلى الله عليه وسلم"من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومَنْ فَرَّج عن مسلم كُرْبة فَرَّجَ الله عنه بها كُرْبَة من كُرَبِ يوم القيامة، وَمَن سَتَر مسلمًا ستره الله يوم القيامة" [رواه أبو داود]
، ولا شك أن هذا العطاء هو الذي يوجِب سعادة الدنيا، أما العطاء لمكسب دنيوي أو بمَنٍّ وأذى لا يجلب شيئًا من السعادة حتى ولو ظهر غير ذلك.
كثيرًا ما يشعر الشخص بالعجز أو عدم القدرة على شيء؛ فيلجأ لقوي يستعين به ويتوكل عليه للوصول لما يريد، فمَن أقوى من الله تعالى؟! إن مفتاح السعادة أن نتوكل على الله القوي القادر الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، الذي إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، قال تعالى{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس: 82]
ولذا أمر هو سبحانه بالاعتماد عليه وحده، قال تعالى {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]؛ فأي كفاية يجدها المرء بعد ذلك، فكفى به سبحانه وكيلا، قال تعالى {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]
ولا شك أن ذلك يوجب له من الطمأنينة والراحة والسعادة والكفاية وقضاء الأمور ما لا يعرفه إلا من جرَّبه، قال تعالى{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ٢ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2- 3]، فضلًا عن حمايته سبحانه للمتوكلين من الشيطان، قال تعالى {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]
ومن الأعداء أيضًا، قال تعالى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ١٧٣ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ 174 إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:173- 175]
وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا تضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء آخر.
إن الإيمان يحقق للمؤمن اليقين والثقة الكاملة بالله تعالى؛ مما يكسبه ثقة في نفسه؛ فلا يخشى شيئًا في هذه الحياة، فهو يعلم وقتها أن الأمر كله لله عز وجل، قال تعالى {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]
كما يوقن أن رزقه بيد الله وحده، قال تعالى{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17]
، وأنه ما من دابة في الأرض إلا وتكفل الله برزقها، وقال تعالى{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، حتى ولو لم تكن تستطيع أن تأتي برزقها، قال تعالى{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[العنكبوت: 60]
ويوقن أن رزقه سيأتيه لا محالة، وأن ذلك حق لاشك فيه، قال تعالى{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ٢٢ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:22- 23]، وأنه سبحانه وتعالى قد قسَّم الأرزاق بين الناس وقدَّرها، قال تعالى {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 36]، ويؤمن إيمانًا جازمًا بأن الله يبتليه دائمًا في الخير والشر، قال تعالى{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]
، ولولا لطف الله سبحانه لهلك هلاكًا شديدًا.
كما أنه يعلم أنه ضيف في هذه الدنيا مهما طال عمره أو قصر، فهو بلا شك سينتقل إلى العالم الآخر؛ لذا فهو يسير في هذه الدنيا على هذا الأساس، لا يخاف مصائب الدهر، ولا يخشى أحدًا إلا الله، ولو كان عدوه قاب قوسين منه أو أدنى، قال تعالى في شأن موسى عليه السلام لما أدركه فرعون بجنوده {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ٦١ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ٦٢ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ٦٣ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ ٦٤ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ٦٥ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ٦٦ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:61- 67]
، وهذا سيد الموقنين محمد صلى الله عليه وسلم، لو نظر عدوه تحت قدميه لرآه، ولكنه ـ بلغة الواثق من ربه والمشركين يلاحقونه ليقتلونه ـ يقول لصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الغار{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]
كما أنه يوقن أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر الموت فلا يخاف الموت، قال تعالى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42]، بل يوقن أنه حقيقة واقعة لا مفر منها، قال تعالى {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8]، وأن الموت لا يأتي إلا في أجله المكتوب، قال تعالى {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]
السعادة هي أن تعيش النفس في رضا؛ فالسخط والنكد ينغص على الإنسان حياته وروحه وشعوره، أما الرضا فهو بوابة السعادة والطمأنينة والغبطة والسرور والحبور، فالرضا سكون وطمأنينة في القلب إلى اختيار الله للإنسان، وهذا السكون وتلك الطمأنينة تجعل كل ما يحدث في الحياة خيرًا للإنسان وسعادة وراحة، فلا تتطلع نفسه إلى غير ربه، ولا تتحسر على شيء من الدنيا، تجعل العبد يعمل ويجتهد ويدعو ربه، ثم يرضى بما قسم الله له؛ ليعيش حياة راضية سعيدة. والرضا أنواع؛ منها:
أ- الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، ومن لا يرضى بذلك فسيعيش في قلق دائم وتساؤلات قلقة مستمرة، قال صلى الله عليه وسلم "ذَاق طعم الإيمان مَنْ رضِيَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولًا" [أخرجه البخاري]، ومن لم يذق طعم الإيمان لم يذق طعم السعادة، بل سيستمر في القلق والنكد، والرضا بالله يعني الإيمان بوجود الله والشعور بعظمة الإله وحكمته وقدرته وعلمه وأسمائه الحسنى، والإيمان والرضا به وبعبادته، وإلا فهو الشك والحيرة والمرض والاكتئاب والعياذ بالله.
ب- الرضا بحكم الله وبشرعه، قال تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]
ولقد جربت البشرية من دروب الشقاء الكثير، ومن نكد الدنيا الكثير بالركون إلى شرائع وأحكام ونظم ظالمة ناقصة؛ لأنها من صنع بشر لا من تشريع خالق البشر الأعلم بما يصلح لهم، قال تعالى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]
جـ ـ الرضا بقضائه وقدره سبحانه وتعالى، فهو يرضى بقضاء الله وقدره؛ لأنه يوقن أنه لا يمكن أن تصيبه مصيبة إلا بمشيئة الله تعالى، وأن الله تعالى سيهدي قلبه، قال تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }[التغابن: 11]، إنه يرضى بقضاء الله وقدره؛ لأنه يعلم ـ علم اليقين ـ أنه لا كاشف للضر إلا الله سبحانه، قال تعالى{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[يونس: 107]، إن من عجيب أمر الإيمان أنه يُكسب المؤمن الرضا بما قسمه الله له، والصبر على المصاعب والشدائد، والشكر على النعم والعطايا، وذلك يكسبه رضا داخليًّا لا يجده أحد غير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"عَجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذاكَ لأحد إلا للمؤمن إنْ أصابته سَرَّاء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له" [رواه مسلم]، بل علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نرضى حتى عندما نرى من هو فوقنا في متاع الدنيا، فقال "انظروا إلى مَنْ هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى مَنْ هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تَزْدَرُوا نعمة الله عليكم" [متفق عليه]