لا شك أن طريق السعادة لا بد أن يمر على دروب العلم والحضارة، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يمر على أودية الجهل أو التخلف، ولا يوجد دين ولا فكر رفع قدر العلماء وأكرم معاملتهم وحث على طلب العلم وإعمال العقل ودعا إلى التدبر والتفكر مثل دين الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والذي صنع حضارة كبيرة توسعت مكانًا في مشارق الأرض ومغاربها، ولذا فإن بعثته صلى الله عليه وسلم تعد بمنزلة ثورة علمية حقيقية في بيئة ما ألفت روح العلم وما تعودت عليه، فجاء الإسلام ليبدأ العلم، ويضيء الدنيا بنور الهداية الربانية، فقال تعالى {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، فليس هناك مكان في هذا الدين للجهل أو الظن أو الشك أو الريبة، وكان أول ما نزل على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ٢ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ٣ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ٤ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:1- 5]
فكان واضحًا أن هذا الموضوع الأول هو مفتاح فَهم هذا الدين، ومفتاح فهم هذه الدنيا، بل وفهم الآخرة التي سيرجع إليها الناس كلهم.
إن الملاحظ أن اهتمام القرآن بقضية العلم لم يظهر في أولى لحظات نزوله فقط، وإنما منذ بداية خلق الإنسان نفسه، كما حكى ذلك القرآن الكريم في آياته؛ فالله خلق آدم وجعله خليفة في الأرض، وأمر الملائكة أن تسجد له، وكرَّمه وعظَّمه ورفعه، ثم ذكر لنا وللملائكة سبب هذا التكريم والتعظيم والرِّفعة؛ فعيَّن أنه (العلم)؛ يقول تعالى في تقرير ذلك {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ٣٠ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٣١ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ٣٢ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:30- 33]
ومما يشير إلى أهمية العلم وقيمته في الإسلام أنه لم تكن البداية فقط في القرآن هي التي تتحدث عن العلم في قوله سبحانه{ٱقۡرَأۡ}، بل كان هذا منهجًا ثابتًا في هذا الدستور الخالد، فلا تكاد تخلو سورة من سوره من الحديث عن العلم، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فقد أمر الله تعالى بالعلم على أعظم مشهود وهو توحيد الله عز وجل؛ في قوله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19]؛ فدل على عظم فضل العلم وأهله، بل نفى التسوية بين من يعلم وبين من لا يعلم {قلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، بل رفع الله الذين أوتوا العلم درجات عالية في الدنيا، فضلًا عن الثواب في الآخرة، قال تعالى{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، ناهيك عن أنه لا يوجد في القرآن الكريم حث على طلب الزيادة من شيء إلا في العلم، قال تعالى{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه: 114]
؛ ومن هنا لم يكن الأمر من باب المبالغة حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم "مَنْ سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنَّ طالب العلم يستغفر له مَنْ في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء، وإنَّ فَضْل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إنَّ العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يُوَرِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، إنما وَرَّثُوا العلم، فمن أخذه أَخَذَ بحظٍّ وافر " [أخرجه مسلم]
، ولذا أصبحت بعد بعثته صلى الله عليه وسلم المساجد قلاعًا للعلم والعلماء.
والمفاجأة الكبرى سنجدها عند إحصاء عدد المرات التي جاءت فيها كلمة )العلم (بمشتقاتها المختلفة في كتاب الله؛ فسنجد أنها قد بلغت (779) مرة؛ أي بمتوسط سبع مرات ـ تقريبا ـ لكل سورة من سور القرآن! وهذا عن كلمة (العلم) بمادتها الثلاثية )ع ل م(، إلا أن هناك كلمات أخرى كثيرة تشير إلى معنى العلم ولكن لم تذكر بلفظه؛ وذلك مثل: اليقين، والهدى، والعقل، والفكر، والنظر، والحكمة، والفقه، والبرهان، والدليل، والحجة، والآية، والبينة، وغير ذلك من المعاني التي تندرج تحت معنى العلم وتحث عليه، أما السنة النبوية فإن إحصاء هذه الكلمة فيها من الصعوبة بمكان كبير؛ وذلك لكثرتها.
لم يكن القرآن كتاب فيزياء أو كيمياء أو أحياء أو رياضيات، وإنما كتاب هداية، ومع ذلك لم يخالف ما فيه شيئًا مما يثبته العلم الحديث أبدًا. وقد كان لذلك كله أثر بعيد المدى في الدولة الإسلامية بعد ذلك؛ حيث أوجد نشاطًا علميًّا واسعًا في مختلَف ميادين العلم والمعرفة، نشاطًا لم يعهد له التاريخ مثيلًا؛ مما جعله يحقق ازدهارًا حضاريًّا عظيمًا على أيدي علماء المسلمين، ويمد التراث الإنساني بذخيرة علمية رائعة يظل العالم بأسره مدينا لها، يقول ماكس مايرهوف: «يمكن إرجاع تطور الكيمياء في أوربا إلى جابر بن حيان بصورة مباشرة، وأكبر دليل على ذلك أن كثيرًا من المصطلحات التي ابتكرها مازالت مستعملة في مختلف اللغات الأوربية
ويقول ألدو مييلي: «وإذا انتقلنا إلى الرياضيات والفلك فسنلتقي منذ البدء بعلماء من الطراز الأول، ومن أشهر هؤلاء العلماء أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي[1].. وقد افتتح الخوارزمي ـ افتتاحًا باهرًا ـ سلسلة من الرياضيين العظام، وقد ظلت كتبه تُدرَّس في الجامعات الأوربية حتى القرن السادس عشر».
وتقول زغريد هونكه عن الجزء الخاص بالجراحة من كتاب: «التصريف لمن عجز عن التأليف[2]» لمؤلفه: الزهراوي: «وقد لعب القسم الثالث من هذا الكتاب دورًا مهمًّا في أوربا؛ إذ وضع أسس الجراحة الأوربية، وسما بهذا الفرع من الطب إلى مقام رفيع، فأصبحت الجراحة مستقلة بذاتها ومعتمدة في أصولها على علم التشريح». وقد كان لكتاب الزهراوي هذا أثر كبير في النهضة الأوربية على مدى خمسة قرون، حيث كان يدرس في جامعات أوروبا، كما كان الجراحون الأوربيون يرجعون إليه ويقتبسون منه.
ولا يزال يقدم العلماء المسلمون إنجازات للبشرية جمعاء؛ يقول أحمد زويل[3] في كتابه «عصر العلم»: «كان عملي يقع مكانًا في قلب الذرات؛ حيث التحام وانفصال الجزيئات، كما كان يقع زمانًا في داخل الثانية؛ حيث تصبح الثانية زمنًا عملاقا».
ولا غرو فإن هذا العلم والهدى والنور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم انتشل البشرية من مستنقعات آسنة؛ فرفعها بالعلم والحضارة والتمدن على مدى التاريخ.
[1] مؤسس علم الجبر والتعريف بنظام العدد الهندي، وواضع كثير من البحوث في الحساب والفلك والجغرافيا. [2]هو عبارة عن دائرة معارف طبية تقع في ثلاثين جزءًا، ويمتاز بكثرة رسومه، ووفرة أشكال الآلات التي كان مؤلفه الزهراوي يستعملها في الجراحة، وقد ترجم جيرار الكريموني الجزء الخاص بالجراحة من هذا الكتاب إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، وصدرت منه طبعات مختلفة، واحدة في البندقية عام 1497م، وثانية في بازل عام 1541م، وثالثة في أكسفورد عام 1778م. كما أن الدكتور لوكليرك ترجمه إلى الفرنسية في القرن التاسع عشر. [3]كيميائي مصري حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لسنة 1999م عن اختراعه كاميرا لتحليل الطيف، تعمل بسرعة الفمتو ثانية (Femtosecond Spectroscopy)، ودراسته للتفاعلات الكيميائية باستخدامها، ليدخل العالم كله في زمن جديد لم تكن البشرية تتوقع أن تدركه؛ لتمكنه من مراقبة حركة الذرات داخل الجزيئات أثناء التفاعل الكيميائي عن طريق تقنية الليزر السريع، لقد ابتكر الدكتور أحمد زويل نظام تصوير سريع للغاية يعمل باستخدام الليزر له القدرة على رصد حركة الجزيئات عند نشوئها وعند التحام بعضها ببعض، والوحدة الزمنية التي تلتقط فيها الصورة هي فيمتو ثانية، وهي جزء من مليون مليار جزء من الثانية.
جاء الإسلام بالطريقة المنهجية العلمية؛ فمثلًا حذر الإسلام من التقليد بلا عقل: يقول سبحانه عن المشركين {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]
وعن اتباع الظن بدون منهج علمي؛ قال تعالى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } [الأنعام: 116]، وعن الهوى الذي يخالف العلم والمنطق والعقل والدراسة؛ قال تعالى {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119]، وعن البغض والكراهية التي تبعد عن العدل؛ قال{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
وعن الموضوعية العلمية؛ قال تعالى عن اليهود {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء: 46]، وعن عدم البغي والشقاق؛ قال تعالى {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ} [الشورى: 42]، وعن الأمانة العلمية مع العدل بين الناس؛ قال {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، وعن العدل والقوامة بالقسط والشهادة بالحق؛ قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}[النساء: 135] وعن أهمية البحث عن الدليل والبرهان والحجة؛ قال {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] .
وغير ذلك كثير مما يصنع منهجية علمية لطريق لعلم والحضارة.